التفكير والتخطيط الاستراتيجي الفرق والأهميّة

الفِكر والتفكير والتخطيط الاستراتيجي الفرق والأهميّة
 
أولا: (الفِكر الاستراتيجي) تعريفه:

 

نستطيع تعريف الفكر الاستراتيجي بأنّه: مجموعة المعارف النظرية، والمهارات التطبيقية، والمعارف الحياتيّة التي تُختزل في العقل البشري، وتستطيع من خلالها استشراف المستقبل، وإدراك الإشارات الضعيفة من حيث الفرص والتهديدات المحيطة.

 

وهو نوعان: فطري ومكتسب، فالبعض وهم القلّة يشبّون وهم أولي فكر استراتيجي ثاقب ينظرون إلى المستقبل من خلال وحي الماضي ووقائع الحاضر، ويركبون موجات التغيير بجرأة ونجاح، من أمثال هؤلاء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله تعالى وسدّده -، أمّا المكتسب فإنّه – كما أسلفنا- نتاج مزيج ضخم من التجارب والمعارف والفشل والنجاح وغيرها من المكونات التي تصنع الإنسان ذا الفكر الاستراتيجي، وعادة فمثل هؤلاء لا يصلون لهذه المرحلة إلّا بعد النضج وتجاوز الأربعين.

 

ثانيا: التفكير الاستراتيجي تعريفه:

 

هو مجموعة العمليات التي نقوم بها لقولبة رؤى وأحلام المستقبل القابلة للتطبيق، والوصول إليها عبر
الممكّنات المتاحة.
وتتمثل عناصر التفكير الاستراتيجي في عدة مرتكزات أهمها:
 التوجّه العلمي، وذلك بطرح أسئلة علمية منطقية، ماذا لو؟ لماذا يحدث هذا؟ أين نريد أن نصل؟ كيف سنصل؟ من سيوصلنا؟ ماهي الوسائل والممكّنات والزمن؟

 

 توقيت التفكير، إذ يُعدّ التفكير في الوقت المناسب من الأمور المهمّة التي تسدّ الفجوة بين واقعيّة الحاضر وقصديّة المستقبل بناء على خلفيّة الماضي.

 

 المنظور الشمولي النظمي، إذا لا بد أن يمتلك المفكّر الاستراتيجي نظرة شمولية تستوعب ما يجري وما قد سوف يحصل في المواقف المختلفة.

 

 الغائية القصدية، وهي الغاية التي يصبو صاحب القرار للوصول إليها، فنجدها حاضرة بشكل ملازم للمفكّر الاستراتيجي.

 

ثالثا: التخطيط الاستراتيجي:
وهو العمل الجماعي في المستقبل كما يعرّفه البعض، وذلك عن طريق دراسة الفرص والمخاطر، والمحيط الخارجي، وأصحاب المصلحة (من أهمهم العملاء الداخليون أي الموظفون، والعملاء الخارجيون، أي عميل السلعة أو الخدمة) ثم نرسم من خلال التخطيط أهداف المنظمة لسنوات مستقبلية تختلف من منظمة لأخرى، وذلك بالنظر إلى موارد المنظمة البشرية والمادية والمالية، وتقرير الوسائل والزمن والأشخاص الذين سيشتركون في القيام بالخطة عن طريق الخطط التشغيليّة المرحليّة.

 

رابعا: من هم القادة الاستراتيجيون؟ ما الذي يميزهم؟ وما الواجب أن نحذر منه...؟

 

تجدر الإشارة إلى أن القادة الاستراتيجيين يتمتعون بالذكاء الاستراتيجي والذي من سماته كما يقرر ماكوبي Macobby أنّ الأذكياء الاستراتيجيين يتصفون بخمس صفات:
 يعملون ويفكّرون بشكل شمولي  Systematic Thinking أي بمعنى أنّهم يدركون ويعرفون تماما ما تداعيات قراراتهم على جوانب المنظمة كافّة، على سبيل المثال مدير مالي يقترح على رئيس مجلس الإدارة تخفيض الرواتب بهدف تعظيم الأرباح، في حين يرى رئيس مجلس الإدارة أنّ القرار سيؤثر بالضرورة على الروح المعنوية للفريق، ويرى أنّ الحل الأمثل هو عمل سياسة لمكافآت مجزية لمن يحقق أهدافه السنوية المُتفّق عليها مع رئيسه، ويقرر فقط خفض 50% من مقترح المدير المالي ما نتج عنه إصرار الموظفين على تحقيق الأهداف وبالتالي ارتفاع المبيعات وتعظيم الأرباح، مع عائد مادي مجزٍ للفريق بنهاية العام للحفاظ على الحافزيّة والروح المعنويّة.

 

 الأذكياء استراتيجيا يمتلكون رؤية، ويعرفون متى يتحركون وبأي إيقاع، ومتى يتوقفون، إنّهم يعيشون هناك في المستقبل بثاقب رؤية آتاهم الله تعالى إياها، ويتحدّون الظرفيّة مهما كانت معقّدة ولا يعلّقون عليها تقهقراً أو فشلاّ!

 

مثال على رؤية مستقبلية ثاقبة:
في ظرفية صعبة يبشّر الرسول صلى الله عليه وسلم سراقة بن مالك بسواري كسرى!
ويربط صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق حجرين على بطنه الشريف من الجوع ويضرب كدية (صخرة) فلما يقدح شرارها يكبّر ويبشّر الصحابة بقصور بُصرى والشام!
رأى أستاذ الإدارة د. بيتر دراكر عام1965 م أن المعرفة ستحلّ محل القوى العاملة ورأس المال والقوى والآلات والأصول الأخرى في المستقبل... إنها حقّا رؤية المستقبل بعين المستشرف الحاذق!
 الأذكياء استراتيجيا يتوقعون، ولديهم حسّ عالٍ في إدراك العلامات الضعيفة واقتناص الفرصة قبل المنافسين، فهم يركبون موجة المخاطرة بناءً على استشراف واقعي للمستقبل لذلك ينالون قصب الريادة والنجاح، مثاله إدراك شركة أبل لحاجة العالم للهواتف الذكيّة في حين تأخرت نوكيا في ذلك، ما جعل أبل رائدا احتل المكانة السوقيّة وعرش الريادة بدلا عن نوكيا، إنّهم القادة المُلهمون.
 الأذكياء الاستراتيجيون يعملون مع ومن خلال الآخر، سواءً داخل المنظمة فهم يعملون مع فريق العمل ومن خلاله ويشركونه في القرار وبالتالي فالأتباع يسيرون خلف القيادة بناءً على رؤية واضحة ومشتركة، والعكس صحيح فالقائد المنكفئ على ذاته يقع في الواقع في مزلق استراتيجي كبير إذ لا يمكن أن يحقق نجاحاته إلّا من خلال فريق عمل يؤمن برؤية وقيم وأهداف المنظمة.

 

وكذا فيما يمتّ بصلة لمن يحتاج لإقامة شراكات معهم من خارج المنظمة خاصة في العصر الحديث، وفي ظل الرؤية المباركة ودخول مستثمرين أجانب للسوق ينبغي أن يعي القادة أهميّة الشراكات والاندماجات وتنهيج الوضع الإداري وفق أحدث النظم ليواكبوا الآخر وإلّا سيُقال: أكلت يوم أُكل الثور الأبيض...!

 

 القادة الاستراتيجيون يتمتّعون بقدرة ومهارة كبيرة لتحفيز الفريق بشتّى أنواع التحفيز ماديا أو معنويا أو بالكلمة الحسنة وما إلى ذلك.
 قلت: والقادة الاستراتيجيون يؤمنون بالمنظمات المتعلّمة ذات الثقافات التنظيمية العالية، إذ يعرّف البنك الدولي المعرفة على (أنها شيء كالضوء لا يمكن الإمساك به، ولا وزنه بميزان، ولكنها قادرة على عبور العالم، وتضئ حياة الناس).

 

خامسا: معوقّات التفكير الاستراتيجي:
هناك العديد من المعوقات والأمور الحاجبة للتفكير الاستراتيجي نتاجا لعدة أمور منها: ما شكّله العقل الجمعي على مدار السنين، ومنها ما يلامس ذوات البعض من القياديين، ومن بعض هذه المعوقات كما يشير إلى ذلك الدكتور جاسم سلطان التالي:

 

 سلوك المنحدر الزلق:
ومعناه أن يختار الإنسان السيناريو الأسوأ من بين عدّة سيناريوهات متاحة وفيها الحسن، مثاله: تعليم الفتيات عندما دخل بلادنا وُوجه بالاعتراض والسخرية من شريحة مجتمعيّة كبيرة زعموا (المنزلق الحدر) أن الفتاة إذا تعلّمت راسلت الأخدان وارتكبت سلوكيات مشينة...! في حين أن بعض العقلاء رأوا في ذلك رقيّا للفتاة بحيث تتعلّم أمور دينها وترقى بأمتها، من أمثال هؤلاء الشيخ الجليل محمد بن جارالله المالكي - رحمه الله - فقد ناصر التعليم للفتاة من أوّل وهلة وسبح برأيه السديد عكس التيّار.

 

 الوقوع في مشكلة التدوير الفكري:
ومعناه أن تسبح بعض القضايا في دائرة مفرغة كلما بلغت منتهاها عادت إلى مبتداها (من أول الدجاجة أم البيضة؟)
ومثالها: يسأل رئيس مجلس إدارة: لماذا جودة العمليات في الشركة منخفضة؟ فيجيب المدير العام: لأنه لا يوجد نظام إداري، فيسأل الرئيس: ولماذا لا يوجد نظام إداري؟ فيجيب المدير لأن جودة العمليات منخفضة، وهكذا دواليك!

 

 الوقوع في التأطير الفكري:
حيث يرى بعض المديرين والقادة مؤطرا بإطار لا يُمكن ولا يسمح أن يخرج عنه، بل أن بعض أصحاب الشركات يقاومون التغيير للأفضل إذا دُعي له من البعض بسبب الإطار الذي يحجب رؤيته الفكرية.
ختاما: فإنّ أفضل قادة الدنيا الاستراتيجيين هو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم حين رأى مستقبل أمته بالرغم من الظرفيّة الصعبة التي كانت تحفُّ مشروعه فقال: (ليَبْلُغن هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ)ولا وَبَرٍ2)إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر).

 

ويقول جون سكالي/ رئيس سابق لشركة بيبسي وآبل:
«إن المستقبل ملك لمن يرون الأشياء الممكنة قبل أن تصبح جليّة أمام الآخرين».

وحاجة الأمم والمنظّمات لكل ما ذكرناه حاجة العطشان إلى الماء ولا شك، سيّما من يمازج بين الفكر والتفكير والتخطيط.

                                                        د. عبدالله المالكي